سورة المدثر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


قوله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء} أي بهذه الصفة وهذا الرّين على القلوب يضل، ثم أخبر تعالى أنه {يهدي من يشاء} من المؤمنين لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه سلطان الله تعالى، فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى، ثم قال: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} إعلاماً بأن الأمر فوق ما يتوهم وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، والسماء كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة. وقوله تعالى: {وما هي إلا ذكرى للبشر} قال مجاهد الضمير في قوله {وما هي} للنار المذكورة، أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى. وقال بعض الحذاق: قوله تعالى: {ما هي}، يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة، قال الثعلبي: وقيل {وما هي}، يراد نار الدنيا، أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة، وقوله عز وجل: {كلا} رد على الكافرين وأنواع الطاغين على الحق، ثم أقسم ب {القمر}، تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرة الله تعالى في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها علىنظام واحد لا يختل، وكذلك هو القسم ب {الليل} وب {الصبح}، فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة إلى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والأرض، لا إله إلا هو العزيز القهار. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {إذ أدَبَر} بفتح الدال والباء، وهي قراءة ابن عباس وابن المسيب وابن الزبير ومجاهد وعطاء ويحيى بن يعمر وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة. وقرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم، {إذا أدْبر} بسكون الدال وبفعل رباعي، وهي قراءة سعيد بن جبير وأبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنهم والأعرج وأبي شيخ وابن محيصن وابن سيرين، قال يونس بن حبيب: {دبر} معناه انقضى و{أدبر} معناه تولى. وفي مصحف ابن مسعود وأبيّ بن كعب {إذ أدَبر} بفتح الدال وألف وبفعل رباعي وهي قراءة الحسن وأبي رزين وأبي رجاء ويحيى بن يعمر. وسأل مجاهد ابن عباس عن دبر الليل فتركه حتى إذا سمع المنادي الأول للصبح قال له: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل، وقال قتادة: دبر الليل ولى. قال الشاعر [الأصمعي]: [الكامل]
وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم *** بهضاب هامدة كأمس الدابر
والعرب تقول في كلامها كأمس المدبر، قال أبو علي الفارسي: فالقراءتان جميعاً حسنتان و{أسفر الصبح} أضاء وانتشر ضوءه قبل طلوع الشمس بكثير والإسفار رتب أول ووسط وآخر، ومن هذه اللفظة السَّفر، والسفر بفتح السين، والسفير وسفرت المرأة عن وجهها كلها ترجع إلى معنى الظهور والانجلاء، وقرأ عيسى بن الفضيل وابن السميفع: {إذا اسفر}، فكأن المعنى طرح الظلمة عن وجهه وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} قال قتادة وأبو رزين وغيره: الضمير لجهنم، ويحتمل أن يكون الضمير للنذارة، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة، وتكون هذه الآية مثل قوله عز وجل
{قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} [ص: 68]، و{الكبر}، جمع كبيرة، وقرأ جمهور القراء {لإحدى} بهمزة في ألف إحدى، وروي عن ابن كثير أنه قرأ {لاحدى} دون همزة، وهي قراءة نصر بن عاصم، قال أبو علي: التخفيف في {لإحدى الكبر}، أن تجعل الهمزة فيها بين بين، فأما حذف الهمزة فليس بقياس وقد جاء حذفها. قال أبو الأسود الدؤلي: [الكامل]
يا أبا المغيرة رب أمر معضل *** فرجته بالنكر مني والدّها
وأنشد ثعلب: [الكامل]
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا *** وفتخات في اليدين أربعا
وقوله تعالى: {نذيراً للبشر} قال الحسن بن أبي الحسن: لا نذير إذ هي من النار. وهذا القول يقتضي أن {نذيراً} حال من الضمير في {إنها}. أو من قوله {لإحدى}، وكذلك أيضاً على الاحتمال في أن تكون {إنها} يراد بها قصة الآخرة وحال العالم، وقال أبو رزين: الله جل ذكره هو النذير، فهذا القول يقتضي أن {نذيراً} معمول الفعل تقديره: ليس نذيراً للبشر أو ادعوا نذيراً للبشر، وقال ابن زيد محمد عليه السلام هو النذير: فهذا القول يقتضي أن {نذيراً} معمول لفعل. وهذا اختيار الخليل في هذه الآية ذكره الثعلبي قال: ولذلك يوصف به المؤنث، وقرأ ابن أبي عبلة {نذيرٌ} بالرفع على إضمار هو، وقوله تعالى: {لمن يشاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}، قال الحسن هو وعيد نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، وقوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} [الحجر: 24].
قال القاضي أبو محمد: هو بيان في النذارة وإعلام أن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر، اي هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره ثم قوي هذا المعنى بقوله: {كل نفس بما كسبت رهينة} إذ ألزم بهذا القول أن المقصر مرتهن بسوء عمله. وقال الضحاك: المعنى كل نفس حقت عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحداً من أهل الجنة إن شاء الله، والهاء في {رهينة} للمبالغة، أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الإنسان وقوله تعالى: {إلا أصحاب اليمين} استثناء ظاهر الانفصال، وتقديره لكن أصحاب اليمين، وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {أصحاب اليمين} في هذه الآية، أطفال المسلمين، وقال ابن عباس: هم الملائكة، وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين، ثم ذكر تعالى حال {أصحاب اليمين} وأنهم في جنات يسأل بعضهم بعضاً عمن غاب من معارفه، فإذا علموا أنهم مجرمون في النار، قالوا لهم أو قالت الملائكة: {ما سلككم في سقر}؟ وسلك معناه: أدخل، ومنه قول أبي وجزة السعدي:
حتى سلكن الشوى منهن في مسك *** من نسل جوابة الآفاق مهداج


هذا هو اعتراف الكفار على أنفسهم وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله والمعرفة به والخشوع والعبادة. والصلاة تنتظم على عظم الدين وأوامر الله تعالى وواجبات العقائد، وإطعام المساكين ينتظم الصدقة فرضاً وطواعية، وكل إجمال ندبت إليه الشريعة بقول أو فعل والخوض {مع الخائضين} عرفه في الباطل، قال قتادة: المعنى كلما غوى غاو غووا معه، والتكذيب {بيوم الدين} كفر صراح وجهل بالله تعالى، و{اليقين} معناه عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة، وقال المفسرون: {اليقين} الموت، وذلك عندي هنا متعقب لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي، فإنما {اليقين} الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت. وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]. ثم أخبر تعالى أن {شفاعة الشافعين} لا تنفعهم فتقرر من ذلك أن ثم شافعين، وفي صحة هذا المعنى أحاديث: قال صلى الله عليه وسلم: «يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فلا يبقى في النار من كان له إيمان»، وروى الحسن أن الله تعالى يدخل الجنة بشفاعة رجل من هذه الأمة مثل ربيعة ومضر وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم، وقال الحسن كنا نتحدث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته، ثم قال عز وجل: {فما لهم عن التذكرة معرضين} أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة، وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور {كأنهم حمر مستنفرة} إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جداً، وقرأ الأعمش: {حمْر} بإسكان الميم، وفي حرف ابن مسعود {حمر نافرة}، وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم: {مستنفَرة} بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد، فأما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة، وأما كسر الفاء فعلى أن نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي، ويقوي ذلك قوله تعالى {فرت} وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر الفاء، واختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: القسورة الرماة، وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة الأسد، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
مضمر تحذره الأبطال *** كأنه القسورة الرئبال
وقال ابن جبير: القسورة: رجال القنص، وقاله ابن عباس أيضاً، وقيل: القسورة ركز الناس، وقيل: القسورة الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا *** أتانا الرجال العاندون القساور
وقال ثعلب: القسورة سواد أول الليل خاصة لآخره أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر، وقوله تعالى: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة} معناه من هؤلاء المعارضين، أي يريد كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله، وكان هذا من قول عبد الله بن أبي أمية وغيره. وروي أن بعضهم قال إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان فلتعرض ذلك الصحف علينا فنزلت الآية، و{منشرة}: معناه منشورة غير مطوية، وقرأ سعيد بن جبير {صحْفاً} بسكون الحاء وهي لغة يمانية، وقرأ: {منْشرة} بسكون النون وتخفيف الشين، وهذا على أن يشبه نشرت الثوب بأنشر الله الميت إذا لطى كالموت، وقد عكس التيمي التشبيه في قوله: [الكامل]
ردت صنائعه عليه حياته *** فكأنه من نشرها منشور
ولا يقال في الميت يحيى منشور إلا على تشبيه بالثوب وأما محفوظ اللغة فنشرت الصحيفة وأنشر الله الميت، وقد جاء عنهم نشر الله الميت، وقوله تعالى: {كلا} رد على إرادتهم أي ليس الأمر كذلك، ثم قال: {بل لا يخافون الآخرة} المعنى هذه العلة والسبب في إعراضهم فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم للهدى حتى هلكوا، وقرأ أبو حيوة: {تخافون} بالتاء من فوق رويت عن ابن عامر، ثم أعاد الرد والزجر بقوله تعالى: {كلا} وأخبر أن هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها {تذكرة}، {فمن شاء} وفقه الله تعالى لذلك ذكر معاده فعمل له، ثم أخبر تعالى أن ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء إلاّ بها، وقرأ نافع وأهل المدينة وسلام ويعقوب: {تذكرون} بالتاء من فوق، وقرأ أبو جعفر وعاصم وأبو عمرو والأعمش وطلحة وابن كثير وعيسى والأعرج: {يذكرون} بالياء من تحت، وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال كأنه تتذكرون فأدغم، وقوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} خبر جزم معناه: أن الله تعالى أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى ونقمه التي لا تدفع لأن يتقى ويطاع ويحذر عصيانه وخلاف أمره، وأنه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتقوه، وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال: «يقول ربكم جلت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله غيري ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له» وقال قتادة: معنى الآية هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب.
نجز تفسير سورة المدثر والحمد لله كثيراً.

1 | 2